والمقصود أن يُقدر الأمر بحسب المصلحة التي يراها الناس، ولنا مثل في سيرة نور الدين الشهيد رحمه الله، الذي هزم الله سبحانه وتعالى على يديه الصليبيين، فعندما أُسر ملك الألمان، احتار فيه نور الدين وقواده، هل يقتلونه أو يطلقونه بمالٍ عظيم، فنظروا فإذا هم بحاجة إلى المال؛ لأن نور الدين رحمه الله ألغى المكوس والضرائب، وقال: كيف ننتصر عليهم ونحن نأخذ المكوس ونأخذ الضرائب؟! فقال: والله لو لم يبق في بيت المال شيء؛ فإنا لا نغلب أعداءنا إلا بطاعة الله، فترك المكوس فقلَّ ما في بيت المال فاحتار، وملك الألمان يعرض عليه فدية كبيرة، ولكنه يخشى إن أطلقه أن يأتيهم بعد حين بجيش عظيم فيقول: يا ليتنا قتلناه، ففكَّر واستخار، فأراد الله تبارك وتعالى له الخير، فأطلقه بعد أن أخذ منه مالاً عظيماً جداً ورجع إلى بلاده، وما أن وصل إلى بلاده وبدأ يؤلِّبهم ويجمعهم ليعودوا إلى أرض المسلمين، حتى أهلكه الله عز وجل، فتفاءل المسلمون وفرحوا، فقالوا: جمع الله لنا بين الحسنيين، أخذنا ماله ومات.
إذاً: فيُنظر حيثما تكون المصلحة، والله تعالى لن يضيع هذه الأمة إن اجتهدت في طلب الخير والحق.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وجواب الأئمة كـأحمد وغيره في هذا الباب مبنيٌ على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق ...".
الإمام أحمد جعله الله تعالى عَلماً لـأهل السنة، وجعل كلامه في أهل البدع كالسيف القاطع، من قال فيه الإمام أحمد : نعم؛ ارتفع إلى قيام الساعة، ومن قال فيه: لا؛ سقط إلى قيام الساعة، فقد جعله الله فيصلاً وجعل كلامه فرقاناً بصبره وثباته على الحق، فرضي الله تعالى عنه.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان رحمه الله يفرِّق بين الأماكن التي كَثُرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بـخراسان والتشيع في الكوفة، وبين ما ليس كذلك"، أي: أن التنجيم انتشر في خراسان والمناطق المجاورة لها، وقد ألف الفخر الرازي -وهو إمام الأشعرية في زمانه- ألَّف كتاباً اسمه: (السر المكتوم في مخاطبة النجوم ).
فقد فرق الإمام أحمد، والمعنى أنه لو وجد شيعي يدعو إلى بدعته في المدينة النبوية، وهي البقعة التي بقيت هي ومكة أنظف البلاد عن البدع؛ لظهور آثار النبوة فيهما؛ ولأن فيهما أولاد الصحابة، لا سيما في المدينة، التي فيها المهاجرون والأنصار والتابعون الذين تتلمذوا عليهم، ثم تلاميذهم، فكانت أقلَّ البلاد احتواء لأهل البدع.
يقول شيخ الإسلام : "ويُفرّق بين الأئمة المطاعين وغيرهم" يُفرَّق بين الإمام المطاع المتَّبع من أهل البدع وبين غيره، قال: "وإذا عُرف مقصود الشريعة سُلك في حصوله أوصل الطرق إليه" فالمهم أن تنظر إلى مقصد الشرع، ثم تسلك أوصل وأقصر وأفضل الطرق التي تؤدي إليه، أي: أن الحكمة هي فهم مقاصد الشرع، ثم إنزال النصوص عليها وأخذ كل حالةٍ بحسبها، وهناك مشكلة تواجه كثيراً من الدعاة، فهم يعرفون الحق ويقولونه، ويلتزمون منهج السلف في الاعتقاد، وفي الدعوة والعلم، لكن ينقصهم إنزال هذا العلم على واقعه الصحيح.